**فلسطين- جيل يقاوم، قيادة تتجدد، وحرية قادمة.**

المؤلف: د. عمار علي حسن11.22.2025
**فلسطين- جيل يقاوم، قيادة تتجدد، وحرية قادمة.**

"كل طفل في فلسطين قائد"، بهذه الكلمات المفعمة بالأمل والعزيمة، عبّرت "أم قتيبة"، شقيقة الشهيد صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الذي طالته يد الاغتيال في بيروت. سعت السيدة جاهدة لتبديد نشوة إسرائيل الزائفة بمقتل أخيها، والتأكيد على أن فقدانه لن يضعف العزيمة، متجاوزةً بذلك مرارة الفراق، ولوعة الخسارة، وحزن الرثاء العميق.

هذا التصريح، على الرغم ممّا قد يبدو فيه من مبالغة للبعض، أو محاولة لإظهار الصمود والثبات، إلا أنه يحمل في طياته حقيقة راسخة تستند إلى ثلاثة أسس رئيسية:

1 – البيئة الاجتماعية القاسية: يولد الطفل الفلسطيني في محيط اجتماعي يئن تحت وطأة تحديات جمة، تفرضها براثن الاحتلال الغاشم، وتغذيها قصص الكبار المؤلمة عن تجاربهم القاسية. هذه الظروف القاسية لا تمنح الطفل فرصة الاستمتاع بطفولته البريئة، بل تدفعه قسرًا نحو هموم ومشاغل تثقل كاهل الشباب والكبار في المجتمعات الأخرى.

ومع هذه التجربة الحياتية المكثفة، يجد الطفل الفلسطيني نفسه مجبرًا على التحمل، واتخاذ القرارات الصعبة، والاختيار بين خيارات محدودة، وكأنه ليس طفلًا، بل يتحمل على عاتقه جزءًا من عبء قضية شعبه، ويتعلم أن يفعل ذلك عن طيب خاطر، ودون تردد.

تسلسل قيادي

2- قانون المقاومة المتوارث: المجتمعات التي تحتضن جماعات وتنظيمات وفصائل المقاومة، تجعل من أطفالها جزءًا لا يتجزأ من هذا الاحتضان، بل توكل إليهم أدوارًا حاسمة في نقل الرسائل والإمدادات أحيانًا، وفي كل الأحوال، هم ملزمون بأن يعيشوا كمقاومين صغار، أو أن يستعدوا لأخذ مكانهم عندما يكبرون. ولا يقتصر دورهم على حمل السلاح فحسب، بل يشمل أداء أدوار حياتية ضرورية لمجتمع يقاوم، سواء كانت زراعة الأرض، أو تشغيل ورشة، أو التعليم والتثقيف، أو غرس حب الكفاح في النفوس، وتعزيز الاستعداد للتضحية من أجل الحرية.

3 – ممارسات التنظيمات السياسية السرية والعلنية: هذه الجماعات والفصائل ترسخ في أتباعها مبدأ التسلسل القيادي، وتضع في حسبانها أن رجالها عرضة للمطاردة، والقتل، والسجن، أو النفي، لذا تسعى جاهدة لملء مخزونها البشري بالبدائل المؤهلة، بحيث إذا غاب شخص، يحل محله آخر تم إعداده وتأهيله لهذا اليوم.

والتنظيمات ذات الأيديولوجيات الدينية ليست استثناءً من هذه القاعدة، بل ربما تمارسها بشكل أوسع وأعمق، كما يتضح من تجربتها في فلسطين، وفي مختلف الدول الإسلامية التي تواجدت فيها، وواجهت تحديات جسيمة، بسبب سعيها الدؤوب لتحقيق أهدافها.

استهداف متواصل

في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تتفاقم التحديات أمام هذه التنظيمات والفصائل، فهي مستهدفة على الدوام، ولا تجد فرصة لالتقاط الأنفاس، ومطالبة بالعمل النضالي المستمر دون توقف، مع الحفاظ على غريزة البقاء يقظة، في ظل صعوبات جمة في التعبئة والتجنيد.

وهناك ثلاثة عوامل جوهرية تحدد قدرة المقاومة الفلسطينية على تعويض قادتها، أو ملء الفراغ الناجم عن فقدانهم. أولها: أن هذه التنظيمات تعودت على الموت غير البيولوجي لقادتها، فهم لا يضمنون البقاء على قيد الحياة حتى الشيخوخة، بل يمكن أن يغيبهم الموت في أي لحظة، حتى خارج الأراضي المحتلة، بفعل ذراع إسرائيل الطويلة. وقد لا يُقتلون، بل يُزج بهم في غياهب السجون لفترات طويلة، معزولين عن الميدان، في وضع أشبه بالموت.

إسرائيل لم تتوقف عن ملاحقة القيادات الفلسطينية منذ اغتيال غسان كنفاني في لبنان عام 1972، وصولًا إلى اغتيال العاروري مؤخرًا، مرورًا بالعديد من القادة، مثل الشيخ أحمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وأبو علي مصطفى، وحسن سلامة، وعبد العزيز الرنتيسي، بل قتلت ياسر عرفات نفسه بالسم، كما يؤكد الكثيرون. ومع ذلك، تمكنت الساحة الفلسطينية على الفور من التعويض، وترميم الصفوف.

العامل الثاني: هو اكتساب مهارات القيادة لدى حركات المقاومة، فبالإضافة إلى التدريب المكثف، فإن أسلوب حرب العصابات الذي تتبعه المقاومة يجعل الفرد فيها مؤهلًا لاتخاذ القرار، وإصدار الأوامر لنفسه في ساحة المعركة، وغير مقيد بالأوامر التي تأتيه من قيادته المباشرة، كما هو الحال في الجيوش النظامية.

أما العامل الثالث: فيتعلق بالتركيبة العمرية للعاملين في المقاومة المسلحة، حيث يجب أن يكونوا جميعًا، أو غالبيتهم الساحقة، من الشباب القادرين على القتال، وهو ما يمنحهم فرصًا متواصلة لإفراز العناصر المؤهلة لتولي الأدوار القيادية.

مسيرة طويلة وشاقة

يتعين على حركات المقاومة الفلسطينية أن تدعم صفوفها باستمرار بنوعين من القيادات: قيادات عسكرية ميدانية تتخرج من التدريب الشاق والكتمان الشديد، وقيادات سياسية تتمتع بمرونة في الخطاب، وحرية نسبية في الحركة، وتتعامل مع الداخل الفلسطيني في تنظيم شؤونه وإدارتها، ومع العالم الخارجي في التمثيل السياسي، وإعلان المواقف، والتفاوض.

تتزين صور هؤلاء القادة جدار النضال الفلسطيني لفترة من الزمن، وتعتاد الناس على وجوههم، ثم يستيقظون ذات صباح ليجدوها قد اختفت، فيطرح السؤال: من بوسعه أن يأتي بعد هذا، ويعوض غياب ذاك؟ وسرعان ما يظهر وجه جديد، ليملأ الفراغ، ويجدد الأمل.

إنّ المقاومة تدرك أن مسيرتها نحو الانعتاق طويلة ومليئة بالتحديات، ولذا فهي تتصرف كما تفعل شركات الطيران في رحلاتها، فتضع إلى جانب الطيار مساعدًا له لا يقل عنه كفاءة، أو يمتلك القدرة نفسها على إيصال الطائرة إلى وجهتها في حال تعرض الطيار الأصلي لأي مكروه. ويصبح هذا الأمر أكثر ضرورة في الرحلات الطويلة جدًا.

من نافلة القول أن جميع المجتمعات السليمة، والدول القوية، تمتلك القدرة على إنتاج البدائل في مختلف المجالات، بما في ذلك القيادات الإدارية والسياسية والعسكرية، والاقتصاد والثقافة. لكن هذا الأمر يختلف مع فصائل المقاومة في مسألتين: الأولى: أن القيادة تكون في الغالب تضحية وليست مغنمًا، خاصة بالنسبة للقيادات العسكرية والأمنية، التي تضع أرواحها على المحك في كل لحظة. والثانية: أن وتيرة التغيير في القيادات تكون أسرع.

مصير واحد

كل ما سبق لا ينفي أن المقاومة تتكبد خسائر باغتيال أو غياب بعض قادتها، خاصة النبهاء والأذكياء والشجعان منهم، لكن هذا جزء من قدرها الذي تؤمن به، بل قد يكون مفيدًا لها في كثير من الأحيان؛ لأن القتل، على بشاعته، يمنح قادتها فرصة ليؤكدوا أن مصيرهم لا يختلف عن مصير أفراد المجتمعات الحاضنة للمقاومين، وأن دماءهم ليست أغلى من دماء الذين يساندونهم، ويعلقون عليهم الآمال.

لقد استُشهد العاروري في وقت تتعالى فيه أصوات المشككين في المقاومة، زاعمين أن قادتها يعيشون في مأمن، وينعمون بالعيش الرغيد في فنادق فاخرة في دول خارجية، بينما أهل غزة يكتوون بنيران الحرب. فجاء الاغتيال ليدحض هذه الادعاءات، خاصة وأن العاروري نفسه تحدث قبل وفاته عن أن قتله في منفاه القسري أمر وارد، ولا يخشاه، شأنه في ذلك شأن بقية الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال في غزة والضفة الغربية.

وعليه، فإن اغتيال العاروري لا يمثل مكسبًا استراتيجيًا لإسرائيل يمكن أن تسوقه على أنه النصر المنشود في غزة، أو على أنه الغطاء الذي يمكن أن تخفي به إخفاقات جيشها المتزايدة منذ انطلاق عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة